العالم العربي بعد غزة- أسئلة مسكوت عنها ومستقبل غامض

ممّا لا شك فيه أننا نلاحظ الإسهاب في الحديث عن الوضع في غزة ما بعد الحرب، في مقابل ندرة الحديث عن تداعياته على العالم العربي. هذا الإسهاب في تناول غزة، صاحَبَهُ نقاشات حول التغيرات الجذرية التي طرأت داخل إسرائيل نفسها، بالإضافة إلى مناطق أخرى حول العالم، في حين ظلّ باب الاجتهاد والتحليل محدودًا للغاية فيما يتعلق بمحيطنا العربي.
لا أستبعد أن يكون هذا التفاوت نابعًا من القيود المفروضة على الحوار والنقاش في بلادنا، لأسباب مفهومة ومبررة. أستثني من هذا وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الرقمية الحديثة، التي أتاحت فسحة أوسع للتعبير عن الرأي والانتقاد.
قبل الخوض في التفاصيل الدقيقة، نحتاج إلى "تحرير" الوضع الراهن، بمعنى محاولة الفحص الدقيق والتمحيص في المشهد العام، لتحديد الأصول والجذور الحقيقية للموضوع.
فالصراع الدائر حاليًا ليس مجرد صراع بين إسرائيل وحماس أو يحيى السنوار، كما يحاول البعض تصويره وتبسيطه. قد يكون صحيحًا القول بأنه صراع بين إسرائيل والشعب الفلسطيني، إلا أن هذا التصوير يمثل جانبًا واحدًا فقط من المشهد، ولا يعكس جوهر الحقيقة كاملة.
إن التهافت المحموم من قِبَل أغلب الزعماء الغربيين، وعلى رأسهم الرئيس الأميركي، على الوقوف صفًا واحدًا إلى جانب إسرائيل منذ اللحظة الأولى، وإصرار واشنطن المريب على استخدام حق النقض (الفيتو) لمنع مجلس الأمن من إصدار أي قرار بوقف إطلاق النار (تكرر ذلك أربع مرات)، بالإضافة إلى إغراق إسرائيل بالدعم العسكري والسياسي الهائل لاستمرار عمليات القتل والتدمير والإبادة الجماعية، كل هذا يُسلط ضوءًا كاشفًا وقويًا على الحقيقة المرة، وهو ما يبرر لنا القول بأن النظام الغربي برمته، بمؤسساته ومبادئه وقيمه السياسية والأخلاقية المعلنة، قد خاض حربًا عالمية ضروسًا ضد الفلسطينيين والعرب المسلمين منهم والمسيحيين، وكانت إسرائيل بمثابة الوكيل أو الذراع المنفذة لهذه الحرب.
أتحدث هنا تحديدًا عن "النظام الغربي"، وليس عن جميع الغربيين، مع الأخذ في الاعتبار عشرات الآلاف من المتظاهرين الذين يخرجون بانتظام في العديد من المدن الغربية، مطالبين بإنهاء هذا العدوان ووقف إطلاق النار فورًا.
ما كان لهؤلاء المتظاهرين أن يخرجوا إلى الشوارع لولا ثورة الاتصالات الهائلة التي أتاحت لهم متابعة حرب الإبادة البشعة بأنفسهم، والتي تُبث مباشرة عبر شاشات التلفزيون لأول مرة في التاريخ، كاشفة الوجه الحقيقي ليس فقط للاحتلال الإسرائيلي البغيض المستمر منذ 75 عامًا، بل أيضًا الوجه الحقيقي لما يُسمى بحضارة الرجل الأبيض، الذي يستحضرنا وصف الفيلسوف الفرنسي روجيه جارودي له بـ "الشر الأبيض".
لديّ حديث مطول عن الجانب الخفي أو المسكوت عنه من المشهد، وأقصد به وضع العالم العربي بعد غزة. وعلى الرغم من أن القتال لا يزال مستمرًا والنتائج النهائية لم تتضح بعد، إلا أن العمق التاريخي لهذا الحدث الجلل الذي تتوالى فصوله منذ ما يقرب من خمسة أشهر يمنحنا إطارًا واسعًا لمناقشة الموضوع من زوايا متعددة.
نحن نلمس ارتدادات وتداعيات هذا الصراع خارج العالم العربي. فهناك أحاديث متزايدة عن تطلعات إسرائيل ومطامعها التوسعية في غزة، وامتداد نفوذها خارج حدودها لتصبح بمثابة جسر حيوي يربط بين قارتي آسيا وأوروبا.
وهناك أيضًا كلام متداول حول حظوظ الرئيس الأميركي في انتخابات التجديد الرئاسي القادمة، بالإضافة إلى النقاشات المستفيضة حول النظام الدولي القائم ومؤسساته المختلفة، وحول نصيب دول الجنوب التي شهدت انتعاشًا ملحوظًا في أميركا اللاتينية وأفريقيا، والتي ارتفعت أسهمها بشكل كبير بعد المبادرة الشجاعة التي اتخذتها جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية، باتهام إسرائيل بارتكاب جرائم إبادة جماعية، متحدية بذلك النفوذ والنظام الأمريكي الإسرائيلي.
وارتفع صوت ناميبيا التي جددت مطالبتها لألمانيا بتقديم تعويضات عادلة عن جرائم الإبادة التي ارتكبتها بحق شعبها في بدايات القرن العشرين، وتصاعدت أصوات السكان الأصليين (الأبورجيون) في أستراليا، الذين جددوا مطالبتهم باستعادة حقوقهم المسلوبة من قِبَل المهاجرين الذين قدموا إلى بلادهم في الحقبة الاستعمارية البريطانية.
على الرغم من أهمية هذه الأصداء وتنوعها، فإنني أزعم أن العديد من الخبراء والباحثين لم يتوقفوا عن مناقشتها وتحليلها، وهم مستمرون في ذلك حتى اللحظة. في المقابل، ظل العالم العربي قابعًا خارج الصورة، على الرغم من أنه يمثل جوهر هذه القضية. من هذا المنطلق، أعتبر أن مساهمتي المتواضعة هذه يمكن أن تكون بمثابة دعوة لتحريك المياه الراكدة وتنبيهنا إلى ما نحن مقبلون عليه من تفاعلات وتحولات جذرية.
فيما يتعلق بمستقبل العالم العربي، هناك جوانب معلومة وأخرى مجهولة. أبرز الجوانب المعلومة تتمثل في التواتر المستمر لأحاديث المسؤولين حول حل الدولتين، وهو الوهم الذي تستمد جذوره من قرار تقسيم فلسطين مع اليهود عام 1947، في الوقت الذي لم تكن أعدادهم تتجاوز نسبة 6% من إجمالي السكان.
ومع ذلك، خُصص لليهود 58% من أرض فلسطين، في حين أن الأغلبية الفلسطينية التي تمتلك الأرض وتعيش فيها منذ مئات السنين لم تُعطَ سوى 42% منها، وهو القرار الذي لم يتم تنفيذه على أرض الواقع. ثم أُعيد التلويح ببعض بنوده في اتفاق أوسلو عام 1993، وظل هذا هو دأب إسرائيل في جميع المفاوضات اللاحقة، إذ تستخدم كلمات ملتوية ومراوغة، من خلالها تأخذ ولا تعطي، بينما تستمر في الاستيلاء على المزيد من الأراضي، وتمكين المستوطنين بدعم وتمويل كاملين من واشنطن طوال الوقت.
أما الجانب المجهول، فيتمثل في الخيارات المطروحة لإدارة قطاع غزة، بالإضافة إلى مخطط كشفت عنه صحيفة "واشنطن بوست"، يهدف إلى خدمة التوسع والهيمنة الإسرائيليين من خلال الاختراق والتطبيع مع المناطق الرخوة في العالم العربي، في إطار ما أُطلق عليه "الشرق الأوسط الجديد". إضافة إلى تغيير جغرافية القطاع تفعيلًا لمخططات جديدة جارٍ تنفيذها.
اللافت في هذا الصدد أن النظام العربي ظل ساكنًا ومتفرجًا، سواء الدول القليلة التي أقدمت على التطبيع مع إسرائيل، أو تلك التي لم تنخرط علنًا في هذه العملية. وفيما يبدو، فإن الأغلبية اتبعت سياسة النأي بالنفس، إذا استخدمنا المصطلح الشائع في لبنان، واكتفت بإصدار البيانات والخطب الإعلامية التي لم تتجاوز حدود الشجب والاستنكار.
هذا السكون والجمود كان بمثابة النصف الفارغ من الكوب، إذا جاز التعبير. لكن الشعوب العربية القلقة والساخطة، والتي قُمِعَت في البداية، ظهرت بقوة في النصف الثاني. صحيح أنه لم يُسمع لها صوت عالٍ، إلا أن 82% من الجماهير العربية ظلت تتابع أحداث غزة المأساوية على شاشات التلفزيون ليل نهار، كما أظهرت ذلك استطلاعات الرأي العام العربي. كانت أصوات الجماهير إما محبوسة أو محجوبة، في حين ظل صوت النأي بالنفس هو المهيمن والمتردد طوال الوقت.
وبدا أن إحدى النتائج المهمة التي ترتبت على توالي زلزال 7 أكتوبر/ تشرين الأول أن الفجوة اتسعت بشكل كبير بين الأنظمة الحاكمة والشعوب التي استهولت ما يجري من فظائع وجرائم بشعة، وبالتالي عجزت عن القيام بواجبها. الأمر الذي رفع من مؤشرات السخط والغضب اللذين انصبا في البداية على الحكومات الغربية التي اصطفت إلى جانب قتل الفلسطينيين وتدمير حياتهم وتهجيرهم، وتلك تربة خصبة ومنطقة خطرة تستدعي طرح أسئلة كثيرة حول تداعياتها المتوقعة في العالم العربي.
إذا كنا قد تابعنا ما جرى في غزة ساعة بساعة، فإن تداعيات المستقبل تظل في علم الغيب. ولا يراودني الشك في أن إسرائيل وحلفاءها من شياطين الإنس قد أعدوا عدتهم للتعامل مع هذه التداعيات.
يذكرنا هذا بما جرى لثورات الربيع العربي في عام 2011، التي فاجأت الجميع، وردت الروح إلى القوى الوطنية العربية، قبل أن يتم إجهاضها بتدابير خبيثة ظهرت نتائجها الكارثية، وإن لم تتكشف لنا خلفياتها ودوافعها الحقيقية حتى الآن.
ولا تزال أبواق الثورة المضادة تصب اللعنات على ما جرى آنذاك، ولا تذكر بالخير تلك النقطة المضيئة في التاريخ العربي المعاصر.
ولإنعاش الذاكرة وتقوية الاستبصار، إذا حاولنا متابعة الحدثين -الربيع العربي وطوفان الأقصى- نجد أن ثمة تماثلًا في بعض الأوجه وتباينًا في أوجه أخرى، أوجزه فيما يلي:
الحدثان كان لكل منهما دوي هائل في العالم بأسره، كما أنهما خرجا من رحم الغضب والمعاناة اللذين اختلفا في الطبيعة والدرجة، إلا أن الاتفاق بينهما ظل في التعلق بأشواق العدل والحرية.
وإذا كان الظلم مخيمًا في الحالتين، إلا أنه في الحالة العربية بدا صادرًا عن أبناء جلدتنا، في حين كان مصدره في الحالة الثانية غرباء وافدين اغتصبوا الأرض وهجروا أهلها. والمفاجأة كانت سمة مشتركة لم تخطر على البال، إلا أنها في الحالة الأولى جاءت جماهيرية عفوية وبلا تدبير، في حين كانت في الحالة الثانية ثمرة تدبير محكم استغرق سنوات.
لهذا السبب، فإن الربيع العربي لم يكن له رأس يقوده ويرشده، بينما الانتفاضة الفلسطينية قادتها المقاومة التي كانت حركة حماس على رأسها.
وكما احتشدت قوى الثورة المضادة في الخفاء لإجهاض الثورات العربية، ونجحت في ذلك، فإن الأنظمة الغربية بقيادة الولايات المتحدة قامت بنفس الدور، حين سارعت في العلن إلى مساندة إسرائيل وتمكينها من قمع الانتفاضة الفلسطينية.
ولا تزال الأسئلة مثارة حول دور عناصر الثورة المضادة الذين تآمروا على الربيع العربي، وحقيقة موقفهم الملتبس إزاء طوفان الأقصى، خصوصًا أن بعضهم من أهل التطبيع الذين انتموا إلى البدعة الإبراهامية المريبة.
لا يجانب الصواب من يخلص إلى أنني لم أجب عن سؤال مستقبل العرب بعد انتهاء الحرب، وهو ما أعترف به لسبب جوهري، هو أنه ليست لديّ إجابة شافية. وما سعيت إليه لا يتجاوز مجرد طرح السؤال المسكوت عنه لفتح باب المناقشة حوله، في محيطنا العربي الذي هو ساحة الصراع وموضوعه في نفس الوقت.
ولا مناص من الاعتراف بأنني لست الوحيد الذي تحيره الإجابة عن أسئلة المستقبل واحتمالاته في العالم العربي، ليس فقط لأنه موضوع صعب وملغوم، ولكن أيضًا لأننا لا نعرف الخرائط الحقيقية لذلك العالم الذي يكتنفه الغموض. فنحن لا نعرف كيف تصنع السياسة فيه، كما أنه ليست لدينا، في مصر على الأقل، قياسات معلنة للرأي العام. وما لدينا إما أن يكون غير معلن في الداخل، أو قياسات معلنة في الخارج.
لكننا مع ذلك نعرف أمرين: أولهما أن النظام العربي ظل غائبًا طوال فترة الحرب المستمرة، وثانيهما أن أداء الدول العربية ظل في حدوده الدنيا حتى صار مخجلًا إذا ما قُورن ببعض الدول الأفريقية أو أميركا اللاتينية، وهي التي لجأت إلى الأفعال الملموسة في مواجهة إسرائيل، بينما جهد الدول العربية لم يتجاوز التصريحات التلفزيونية والأقوال المنمقة.
إنني أقدر الضرورات وأتفهم الحسابات السياسية التي لم تمنع دولًا أخرى من القيام بواجبها في رفض العدوان من خلال الأساليب الدبلوماسية المعهودة، لكن الخذلان العربي كان فظيعًا وغير متوقع على الإطلاق.
بعبارات أخرى؛ فإن المشاعر الجياشة التي تعم أرجاء العالم العربي قد تتحول إلى ممارسات غير متوقعة، ما لم تُبذل جهود حقيقية ومخلصة لامتصاص غضب الجماهير التي يُراد لها أن تقف متفرجة على هذا المشهد المروع للإبادة الجماعية. إن مشهد الإبادة والتجويع المأساوي، بذات الأساليب البغيضة المتبعة منذ اتفاق أوسلو المشؤوم، يشكل صدمة عنيفة تبعث على الإحباط الشديد، باعتباره لا يعبّر عن الواقع الجديد بعد 7 أكتوبر/ تشرين الأول، ناهيك عن أنه لا يوفر الحد الأدنى من الحفاظ على الحق والكرامة والعِرض.
